الحلقة الثانية من مدينة القدس
. القدس أرض الإسراء والمعراج
وثانيما تمثله القدس في الوعي الإسلامي: أن الله تعالى جعلها منتهى رحلة الإسراءالأرضية، ومبتدأ رحلة المعراج السماوية، فقد شاءت إرادة الله أن تبدأ هذه الرحلةالأرضية المحمدية الليلية المباركة من مكة ومن المسجد الحرام، حيث يقيم الرسول صلىالله عليه وسلم، وأن تنتهي عند المسجد الأقصى، ولم يكن هذا اعتباطًا ولا جزافا، بلكان ذلك بتدبير إلهي ولحكمة ربانية، وهي أن يلتقي خاتم الرسل والنبيين هناك بالرسلالكرام، ويصلي بهم إمامًا، وفي هذا إعلان عن انتقال القيادة الدينية للعالم من بنيإسرائيل إلى أمة جديدة، ورسول جديد، وكتاب جديد: أمة عالمية، ورسول عالمي، وكتابعالمي، كما قال تعالى:﴿وما أرسلناك إلا رحمةللعالمين﴾الأنبياء:104 ،﴿تبارك الذي نزل الفرقان علىعبده ليكون للعالمين نذيرًا﴾الفرقان:1
لقد نص القرآن على مبتدأ هذهالرحلة ومنتهاها بجلاء في أول آية في السورة التي حملت اسم هذه الرحلة (سورةالإسراء) فقال تعالى:﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجدالحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا﴾الإسراء:1. والآية لم تصف المسجد الحرام بأي صفة مع ماله من بركات وأمجاد، ولكنها وصفت المسجدالأقصى بهذا الوصف﴿الذي باركنا حوله﴾، وإذا كان ماحوله مباركًا، فمن باب أولى أن يكون هو مباركًا.
وقصة الإسراء والمعراج حافلةبالرموز والدلالات التي توحي بأهمية هذا المكان المبارك، الذي ربط فيه جبريلالبراق، الدابة العجيبة التي كانت وسيلة الانتقال من مكة إلى القدس، وقد ربطهابالصخرة حتى يعود من الرحلة الأخرى، التي بدأت من القدس أو المسجد الأقصى إلىالسموات العلا، إلى "سدرة المنتهى"، وقد أورث ذلك المسلمين من ذكرياتالرحلة:الصخرة، وحائط البراق.
لو لم تكن القدس مقصودة في هذه الرحلة، لأمكنالعروج من مكة إلى السماء مباشرة، ولكن المرور بهذه المحطة القدسية أمر مقصود، كمادل على ذلك القرآن الكريم والأحاديث الشريفة.
ومن ثمرات رحلة الإسراء: الربط بين مبتدأ الإسراء ومنتهاه، وبعبارة أخرى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهذا الربطله إيحاؤه وتأثيره في وعي الإنسان المسلم وضميره ووجدانه، بحيث لا تنفصل قدسية أحدالمسجدين عن قدسية الآخر، ومن فرط في أحدهما أوشك أن يفرط فيالآخر.
3. القدس ثالث المدن المعظمة
والقدس ثالث المدن المعظمة في الإسلام. فالمدينة الأولى في الإسلام هي مكة المكرمة، التي شرفها الله بالمسجد الحرام. والمدينة الثانية في الإسلام هي طيبة، أو المدينةالمنورة، التي شرفها الله بالمسجد النبوي، والتي ضمت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. والمدينة الثالثة في الإسلام هي القدس أو بيت المقدس، والتي شرفها الله بالمسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، وفي هذا صح الحديث المتفق عليه عن أبي هريرةوأبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ﴿لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا﴾.
فالمساجد كلهامتساوية في مثوبة من صلى فيها، ولا يجوز للمسلم أن يشد رحاله، بمعنى أن يعزم على السفر والارتحال للصلاة في أي مسجد كان، إلا للصلاة في هذه الثلاثة المتميزة. وقدجاء الحديث بصيغة الحصر، فلا يقاس عليها غيرها.
وقد أعلن القرآن عن أهميةالمسجد الأقصى وبركته، قبل بناء المسجد النبوي، وقبل الهجرة بسنوات، وقد جاءت الأحاديث النبوية تؤكد ما قرره القرآن، منها الحديث المذكور، والحديث الآخر: ﴿الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة في غيره من المساجد، ماعدا المسجد الحرام، والمسجد النبوي﴾(متفق عليه) ومنها، ما رواه أبوذر، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ﴿أيالمساجد بُني في الأرض أول؟قال:"المسجد الحرام"، قيل ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى﴾.
والإسلام حين جعل المسجد الأقصى ثالث المسجدين العظيمين في الإسلام، وبالتالي أضاف القدس إلى المدينتين الإسلاميتين المعظمتين: مكة والمدينة، إنما أراد بذلك أن يقرر مبدأ هام امن مبادئه، وهو أنه جاء ليبني لا ليهدم، وليتمم لا ليحطم، فالقدس كانت أرض النبوات،والمسلمون أولى الناس بأنبياء الله ورسله.