في أدبِ الحِوار
( 1 )
من أدب الاختلاف في الحِوار
نحنُ نتحاورُ إذا تحاورْنا ، ليعرِضَ كلّ واحدٍ منّا آراءَه وأفكارَه ، لا ليُعلّمَ أحدٌ أحداً ، ولكن ليعرِفَ كلّ واحدٍ منّا كيفَ يُفكّرُ أخوه ، وكيفَ يُخطئُ إن أخطأ وكيفَ يُصيبُ إن أصابَ وكيفَ يقفُ كلّ منّا على فكرِ صاحبِه في شتاتٍ من أمرِه وحيْرَةٍ و في هدوئه وسكينَتِه و نحنُ نتقاسَمُ في هذا المَقْهى الحُلوَ والمُرّ ، ونتعاهَدُ على حِفْظِ الوِداد، وحَظْرِ الاستبْداد
و عندَما يتبيّنُ لي أنّ أخي أخطأ ، كما أزعُم ، أبادِرُ لأبيّنَ له وجه الخطإ في نظري
أوأؤكّد ما قالَه و أثبِّتُه إن بدا لي أنّه على صوابٍ ، ولكنّي لا أقولُ لَه - في مسألة خلافيّة إنّك يا فُلانُ تقولُ قولاً في غيرِ محلّه ، أي قولُك مردودٌ عليكَ لأنّه لا يُوافقُ رأي مَن أميلُ إلى رأيِه
و مَتى كانت آراءُ النّاسِ متوافقةً مطلَقاً ،متى كانت أفكارُهُم وأحاسيسُهُم و مشاعِرُهم متطابِقَةً ؟
أليس لكلّ واحدٍ منّا عالَم ٌ بِذاتِه مُلْقىً في مدبِّ الحَياةِ ؟
أمن الممكن حقاً ن تجعلَ إنساناً يُحسّ بِما تُحسّ بِه؟
قد يستقيم أن تقولَ لأخيك: إنّي أحسّ بِما تُحسّ بِه ، ولكنّك تَعْني بِذلك أنّ إحساسَك توجّه إلى شيءٍ كانَ إحساسُه قدْ توجّه إليه ، كما يقول الأستاذ محمود شاكِر في مقالتِه "غرارَة ملقاة"
الخطأ أن نعتقدَ أنّه ينبغي أن تُحسَّ جماعةٌ من البشرِ بإحساسٍ واحد ، لأنّ إرغامَ النّاسِ أن يُحسّوا بإحساسٍ واحدٍ ، يقودُ إلى إذلالِ النّاسِ فلكلّ حسُّه ومَشاعِرُه و آراؤُه ، ومن الاختلافِ تتكوّنُ الحياة ،ونحنُ وإن كنّا نعيشُ في عالَم واحدٍ ، فلا يعني أنّنا نعيش بفكرٍ واحد وإحساسٍ واحد ومشاعِرَ واحدة ؛ لأنّ التّطابُقَ بين النّاسِ نفيٌ للخصوصيّاتِ و المَلَكاتِ الفرديّة والمَهارات، و لهذا السّبب أخفَقَت كثيرٌ من الأنظمَة التي كانت تسعى إلى إخضاعِ الفردِ للجَماعَة قلْباً وقالَباً ، لأنّها كانت تقهَرُ الإنسانَ و تُرغِمُه وتَحمِلُه على ما لا يُناسِبُ فطرَتَه
( 2 )
هل الحِوارُ خُصومَة؟
من النّاسِ مَن يتصوّرُ الحوارَ خصومَةً بينَه و بينَ مَن يُحدّثُه فقَد يتحدّثُ النّاسُ فيما بيْنَهم في ما يُحبّونَ و فيما يتّفقونَ و فيما يَتَراضَوْنَ ، فيتّفقونَ أو يوطّئ بعضُهُم لبعضٍ كنَفَه أو يخفض له الجَناح ويغضّ الطّرفَ وينظرُ إليه بعيْنِ الرِّضا الكليلَةِ عن المَعايبفإذا خاضوا فيما هم فيه مُختلفونَ نشبَتْ بينَهم الخُصومَةُ وألقِيَتْ بينهُم العَداوةُ والبَغْضاء ....
والظّاهِرُ أنّ كثيراً من النّاسِ لا يُحسنونَ هذا الفنّ من فُنونِ الكَلام و هذا الضّرْبَ من ضروبِ المُعاملاتِ ، ربّما لأنّ بعضَهُم نَشَأ مُخاصماً فغلبَ عليه حبُّ الخِصام .
( 3 )
و الحقيقَةُ أنّ فنّ الحِوارِ فنّ عظيمٌ ينبغي أن يتعاطاه أولو العلمِ والثّقافَة و التّعليم قبلَ غيرِهم ، وأن يُقْبِلوا على الحِوارِ الهادءئ الذي يخلو من أسبابِ التّنازُعِ و مظاهِرِ التّخاصُم و التّدابُر،ونوازِعِ الانتصارِ للنّفسِ ، وغيْرِها من المَشاعِرِ الملتهِبَة التي تضطرِمُ بِها الكَلِماتُ المُتبادلةُ ، ولا ينتهي أمرُهما إلى فوزٍ و لا هَزيمَة فتَرى المُتحاوِرَيْنِ ما يفْتأ أحدُهُما أو كِلاهُما مشغوفاً بالخُصومَةِ متعلّقاً بأسبابِها يصَّعَدُ في الكَلامِ حيناً فيكونُ لاذِعاً ، ثمّ يسخَرُ حيناً آخَرَ فيكون لاذعاً مُقذِعاً و لم يعلَمْ أحدُهُما أوكِلاهُما ، أنّ لَه ناحيةً من نواحي نفسِه الباطِنَة لا مرارةَ فيها و لا إقذاعَ و لا سُخرِيّةَ
فإذا شاعَتْ ثقافةُ العُنفِ في الحوارِ تهيّبَ النّاسُ أن يُقْبِلوا على المُتحاوِرَيْنِ المُخاصِمَيْنِ
بحوارٍ أو سؤالٍ أو مناقشَةٍ ، و تَرَكوهُما اتِّقاءَ بأسِهِما ، وأعرَضوا عنهُما حَذَرَ الاصطِدام ، ولم يعلَم المُتحاوِرانِ المُتخاصِمان أو أحدُهُما أنّ في أنفُسِهِما جوانِبَ لا مَرارَةَ فيها و لا إقْذاع، وأنّهُما قادِرانِ على أن يُنْشِئ ابيئةً حوارِيّةً صافِيةً يمْلؤُها السّلمُ والأمنُ، فيسْعى كلّ طرفٍ إلى صاحبِه بالحوارِ الهادئ رفيقاً بِه وبِنفْسِه، لا مندفِعاً عَجولاً إنّما الحوارُ تهْيئةٌ لجوٍّ مناسبٍ للحديثِ في مواضيعَ محدّدَةٍ ، يتعاقدُ لَها المتحاوِرانِ عقْداً للتّحادُث وإبداءِ الرأي مقروناً بالدّليل، ومُلتزِماً بقواعدِ الحوارِ وأخلاقِ المناظَرَة و أدبِ الاختلاف
و بالله التّوفيقُ