.
شابٌّ يتحدث في مجالسه -بكل استرخاء- عن سرّ تحولاته الأخيرة، فيأتي ببعض الاستشكالات التي كانت شرارة هذه التحولات، وحين تفحصها تجدها من الشبهات اليسيرة التي يسهل الجواب عنها، بل لم تعد لها جاذبية لتوالي الردود الكثيرة عليها، بينما تجد شاباً آخر يحضر مجالس حواراتٍ كثيرة مع عدد من الملحدين والشكّاك ويسمع من فنون الإشكالات، فيخرج منها وهو واثق من دينه متلمّظ مما سمع، قد زادته هذه الشكوك حميّة لدينه وحرصاً على تعلّم أحكامه وسعياً للدفاع عنها، مع كونه ربما لم يكن قادراً في حينها على الإجابة عن هذه الأسئلة.. في كلا الحالتين لدينا شبه وإشكالات، لكنها في الحالة الأولى أحدثت انقلاباً عميقاً مع كونها شبهة سهلة، وفي الثانية لم يكن لها أي أثر، بل قد زادت صاحبنا إيماناً.
يقودنا هذا المشهد المتكرر إلى إدراك حقيقة أن الإشكال الحقيقي ليس في وجود (شبهة) معينة عند المسلم أو حضور تساؤلاتٍ ما، أو مرور بعض الخواطر على قلبه؛ إنما الخلل يأتي في موقفه من هذه الشبهة وكيفية إدارته هذه الإشكالات، وإلا فكون المسلم يجهل شيئاً من الشريعة أو يُشْكِل عليه بعض أحكامها أو تخفى عليه حكمة بعض شرائعها أو لا يستطيع الجمع بين بعض نصوصها؛ كل هذا أمر طبيعي، ولا يكاد يسلم منه أحد، وهي نتيجة طبيعية لواقع الإنسان وما هو عليه من جهل ونسيان وهوى وضعف، ولهذا فموقف التسليم للشريعة في مثل هذه الأسئلة هو موقف عقل واعٍ مدرك طبيعة هذا الضعف والنقص.
قد كان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عما يستشكلون، انظر مثلاً في أسئلة عائشة رضي الله عنها، فلما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت إنا لنكره الموت» (أخرجه البخاري برقم: 6507)، ومسلم برقم (2684)، وحين سمعته يقول: «من حوسب عذب. قالت: أوليس الله يقول: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}» [الانشقاق: ٨] (أخرجه البخاري برقم (103)، ومسلم برقم: 2876)، وغيرها، إذًا، فليس الخلل في وجود استشكالات أو حضور أسئلة، فمثل هذا لا ينافي التسليم، بل هو في الحقيقة داعٍ لكمال التسليم وتمام الانقياد لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إنما يأتي الخلل على الإنسان حين لا يُحسن التعامل مع هذه الإشكالات والشبهات، فتكون سبباً لهدم أصول شرعية وتغذية انحرافات عميقة ما كانت لتحصل لو أنه تعامل مع هذه الشبهة بشكل منهجي صحيح، وبطريقة عقلية موضوعية سليمة.
إن التعامل مع الأسئلة التي ترد على المسلم يحتاج إلى مدخل منهجي عقلاني متكامل، فهي بأمسِّ الحاجة إلى منهجية متكاملة وليس إلى مجرد ردود عقلية ونقلية فقط، ولو قُدِّر لي أن أرى هذا المدخل المنهجي فسأضع في أول مدخله لوحة كبيرة أنحت عليها حديث النبي صلى الله عليه وسلم وثناءه العظيم لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله، الحلم والأناة» (أخرجه البخاري ومسلم).
الأناة صفة خلقية تسيطر على سلوك الإنسان حتى يغلب عليه الهدوء والاستقرار والتفكير قبل اتخاذ القرار، فتحميه من العجلة والخضوع لضغط نفسي معيّن، كثيرة تلك المواقف التي نتخذها في حياتنا، لو قدّر لنا أن نتريث فيها قليلاً لما رضينا بها، لكن العجلة وضغط اللحظة الآنية تدفع الشخص لاتخاذ مواقف غير منطقية ولا صحيحة، وهنا تأتي هذه الصفة الجليلة لتجذب النفس عن السقوط في مثل هذه الأخطاء.
الأناة منهج ضروري للتعامل مع الإشكالات والشبهات التي تنهال على قلب المسلم من كل مكان في هذا الزمان، فهي تدعوه لأن يتريث في أمرها، ويفكر فيها كثيراً، وتدفعه للاستشارة وطول النظر، وحينها سينزِل الإشكال في موقعه الطبيعي، تريد أن تعرف قيمة الأناة حقاً؟ انظر في تحولات كثيرٍ من الناس، ستجد فيها ظاهرة ملموسة بوضوح وهي: (سرعة التحول)، فجلسات قليلة ولقاءات محدودة وأسابيع يسيرة كافية لتغيير بعض الناس تصوراته بالكامل، بل بعضهم ربما تبدأ حالة التحول لديه من خلال لقاء واحد فقط أو ارتباط مع صديق في فترة معينة، أو من خلال قراءة محدودة لو أمضى كل وقته ليلاً ونهاراً في القراءة لما كانت كافية في تغيير قناعاته بهذه الطريقة، إنما كان غياب (الأناة) السبب العقلاني الوحيد لتفسير مثل هذه التحولات غير العقلانية.
ضعف الأناة يفتح على الإنسان ركام التأثيرات النفسية، فيكون المؤثر الأقوى ليس البحث عن الحق ولا ميزان العدل، بل هو الحالة النفسية التي يعيشها، بما تدفعه دفعاً إلى تصورات كلية قطعية بشكل سريع مع قصور ظاهر في استيعاب الفكرة، أو تعميمها، أو التدقيق في دلائلها.
الأناة من العقل، وكلما زاد الإنسان في عقله وإدراكه قوي تريثه وطال تفكيره، وحين تمضي هذه الشبهات والإشكالات في النفس سريعاً، فما ذاك إلا لقصور في العقل والإدراك ولو كان صاحبها يتغنى بالعقل ويتيه فرحاً بامتيازه عن الناس به، فالعقل ليس مادة نظرية أو حالة شعورية نفسية، بل العقل هو الإدراك، ولا إدراك من دون أناة وتريث.
الأناة تستدعي التفكير الطويل، والاستشارة، والموازنة، وحينها سيضع الإنسان المسألة في وضعها الطبيعي، وسيتعامل مع الإشكال والشبهة بشكل موضوعي صحيح، وستبدو غالب هذه الشبهات أموراً يجهلها الإنسان ويسعى لتعلّمها.. نعم، قد يصل