اللغة واللهجة
يمكن أن نتساءل، على غرار أنيس فريحة في الجزء الثاني من كتابه: " اللهجات العربية وأسلوب دراستها "[1]، ما الذي يميز بين اللغة وبين اللهجة؟
بالنسبة إلى أي واحد منا، قد يبدو الفرق واضحا. وقد يعود ذلك إلى أن كل لهجة بمثابة نوعية لسانية قائمة بذاتها، بنظامها الصوتي، بصرفها ونحوها وتركيبها، وأهليتها للتعبير عن مقاصد المستعملين في مقامات متعددة.
وفي هذا الإطار؛ يشير إبراهيم أنيس إلى أن: " العلاقة بين اللهجة واللغة هي علاقة الخاص بالعام؛ لأن بيئة اللهجة هي جزء من بيئة أوسع وأشمل، وتضم عدة لهجات، ولكل منها خصائصها ولكنها تشرك جميعا في مجموعة من الظواهر اللغوية، التي تشير إلى اتصال أفراد هذه البيئات بعضهم ببعض؛ وفهم ما قد يدور بينهم من حديث فهما يتوقف على قدر الروابط التي تربط بين هذه هي اللغات وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات؛ لكل منها ما يميزها، وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللغوية؛ والعادات الكلامية التي تؤلف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات ".[2]
ولعل هذا يتفق مع رأي تمام حسان الذي يعتبر اللهجة: " طريقة من طرق الأداء اللغوي يتوخاها المتكلم في ظل حالة اجتماعية خاصة، وكلنا يعلم المقصود باختلاف اللهجات العربية القديمة، ويدرك الفروق الدقيقة بين اللهجات المعاصرة، لقد كانت اللهجات العربية المحلية في الجاهلية وفي صدر الإسلام تختلف، إما من ناحية الأصوات وإما من ناحية الصرف وإما من ناحية النحو، أو تختلف من نواح تخلط بين بعض هذه الأمور أو بين كلها"[3]؛ ولا يقف تمام حسان عند هذا الحد وإنما يتجاوزه إلى " أن يقال لهجة فلان ويقصد بذلك الطريقة التي يتكلم بها من حيث حركات الجهاز النطقي والعلاقات بين الأصوات، ومن حيث الخصائص الصرفية والنحوية في كلامه بل حتى في ظل نظام لغوي عام تعارف عليه المجتمع "[4].
ويذهب محمد سالم محيسن إلى أن العلاقة بين اللهجة واللغة هي العلاقة بين العام والخاص، لأن اللغة تشتمل على عدة لهجات لكل منها ما يميزها؛ وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللغوية والعادات الكلامية التي تؤلف لغة مستقلة عن غيرها من اللغات[5],
ويذكر هيدسون، في كتابه " علم اللغة الاجتماعي "، أحد المعايير التي يمكن عن طريقها التفريق بين اللهجة واللغة في منقطة معنية وبين متكلمين محددين. وهو معيار " الفهم المتبادل ". فإذا استطاع متكلمان بنوعيتين مختلفتين أن يفهم كل منهما الأخر، فإن النوعيتين المعنيتين تعتبران مثالين من نفس اللغة، أو لهجتين. ودون هذا الفهم المتبادل، لا تكون النوعيتان لغة واحدة.[6]
غير أن الباحث يشير إلى أننا لا يمكن أن نعتمد هذا المعيار، مع ذلك، دائما في كل الحالات، حيث تحول الكثير من المشاكل دون تطبيق مثل هذا المعيار واستخدامه.[7]
وقد تتبدى هذه الصعوبة مباشرة، بالرجوع إلى رأي أنيس فريحة، والذي يرى أنه " إذا اعترنا مثلا لهجة أهل البندقية ولهجة أهل صقلية فإنهما لهجتان ( لا لغتان ) إيطاليتان. ولكن أهل البندقية لا يفهمون أهل صقلية، ولا أهل صقلية يفهمون أهل البندقية. إن التفاهم بينهما غير ممكن.
وقل مثل عن اللهجات الرومانية، أي الإيطالية والفرنسية والإسبانية، فإننا نسميها لغات، لا لهجات؛ بينما في الواقع التاريخي كانت هذه اللغات لهجات لاتينية. وإذا اجتمع إيطالي بفرنسي، فإن التفاهم بينهما ليس مستحيلا.[8]
وقد يعترض على هذا باعتبار أن الفرق بين اللهجة واللغة هو في الأدب. فاللغة هي التي تملك أدبا، أي أن الأدب مقياس للتفرقة. وهذا الزعم تبعا لأنيس فريحة مردود، لأن لهجات الزنوج والهنود ولهجات العديد من الشعوب لها أدبها …[9]
ويمكن أن نخلص إلى أنه لا وجود لأي أساس حقيقي عن طريقه يمكن أن نميز بين اللغة واللهجة، باستثناء المرتبة أو المكانة التي تتمتع بها لغة بعينها.
والحقيقة أنه " لا فارق جوهري بين لهجة ولغة؛ إنما الفرق هو أن لهجة ما ولسبب خارجي، أو لظروف خاصة، تعتبر لغة قومية رسمية، بينما لهجة أخرى، ربما أفضل منها، ولا يعترف بها "[10].
وهذه المكانة هي وليدة أسباب متعددة يدرجها أنيس فريحة ضمن ما يسميه " السلطة العليا "[11]؛ على اعتبار أن هذه السلطة على اللغة قد تكون ناجمة عن مجموعة من العوامل، كالعامل العسكري السياسي، والعامل الديني، والعامل الأدبي، ثم أخيرا العامل الاجتماعي الطبقي. [12]
فهل يمكن اعتبار اللهجة نوعية لغوية جديرة بأن نتعامل معها بالضبط كما نتعامل أي لغة أخرى، بما في ذلك العربية الفصحى؟
قد يقال: الفارق أن اللهجة تعتبر تقهقرا وانحطاطا لغويا عن لغة فصحى[13]. لكن دراسة اللهجات أثبتت أن اللهجة ليست تقهقرا ولا انحطاطا لغويا، بل تطورا وتقدما لغويا فرضتهما النواميس الطبيعية التي تتحكم بمصير كل لغة. وأفضل دليل على أن اللهجات ليست انحطاطا لغويا هو كون بعضها سابق في الزمن للغة الفصحى.
ويرى أنيس فريحة أن " العامية لغة قائمة بذاتها حية متطور نامية؛ هذا الرأي لن يرضى المجموع الأكبر منا؛ لأننا اعتدنا أن ننظر إلى العامية بأنها لغة رديئة فاسدة تتميز باللحن والرطانة والعجمة … ولا يمكن أن تكون حية متطورة نامية بل إنها تمثل انحطاطا لغويا "[14].
ولتأكيد هذا الموقف، يضيف قائلا: " إن الفروق بين العامية والفصحى التي ينظر إليها الناس أنها فروق طفيفة جزئية، أو انحراف بسيط عن الفصحى؛ هي، من جهة نظر علم اللغة، فروق أساسية جوهرية تبرر اعتبار العامية لغة قائمة بذاتها، سواء أكان هذا في النظام الصوتي، أم التركيبي، أم الصرفي، أم النحوي، أم المفردات والتوليد والاقتباس "[15].
" ولعل الخطأ في الزعم أن العامية والفصحى لغة واحدة راجع إلى سهولة الانتقال من العامية إلى الفصحى عند عامة المتأدبين الذين قضوا الشطر الأكبر من حياتهم في إتقان العربية بقواعدها وشواذها " [16].
[1] أنيس فريحة:" اللهجات وأسلوب دراستها "، ص 77
[2] إبراهيم أنيس، " في اللهجات العربية )"؛ ص 16.
[3] تمام حسن، "اللغة ببن المعيارية والوصفية"، ص 185.
[4] نفسه، ص 185.
[5]
[6] هدسون، "علم اللغة الاجتماعي"، ترجمة محمود عياد ص 59.
[7] نفسه ص 60.
[8] أنيس فريحة، " اللهجات وأسلوب دراساتها " 1989 ص 78
[9] نفسه ص 77.
[10] أنيس فريحة، "اللهجات وأسلوب دراستها "، ص: 79.
[11] نفسه، ص 79.
[12] لأجل التوسع في هذا الأمر: انظر أنس فريجة ص: 80-84.
[13] نفس المرجع، ص 88
[14] أنيس فريحة ؛اللهجات وأسلوب در ص 97.
[15]
[16] أنيس فريحة؛ اللهجات وأسلوب دراستها – ص 98.
منقول