بـغــداد
أم الدنيا وسيدة البلاد وجنة الأرض ومدينة السلام، وقبة الإسلام ومجمع الرافدين، ومعدن الظرائف ومنشأ أرباب الغايات، هواؤها ألطف من كل هواء، وماؤها أعذب من كل ماء، وتربتها أطيب من كل تربة، ونسيمها أرق من كل نسيم ! بناها المنصور أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولما أراد المنصور بناء مدينة بعث رواداً يرتاد موضعاً، قال له: أرى يا أمير المؤمنين أن تبنى على شاطيء دجلة، تجلب إليها الميرة والأمتعة من البر والبحر، وتأتيها المادة من دجلة والفرات، وتحمل إليها ظرائف الهند والصين، وتأتيها ميرة أرمينية وآذربيجان وديار بكر وربيعة، لا يحمل الجند الكثير إلا مثل هذا الموضع. فأعجب المنصور قوله وأمر المنجمين، وفيهم نوبخت، باختيار وقت للبناء فاختاروا طالع القوس الدرجة التي كانت الشمس فيها، فاتفقوا على أن هذا الطالع مما يدل على كثرة العمارة وطول البقاء، واجتماع الناس فيها وسلامتهم عن الأعداء. فاستحسن المنصور ذلك ثم قال نوبخت: وخلة أخرى يا أمير المؤمنين. قال: وما هي ؟ قال: لا يتفق بها موت خليفة ! فتبسم المنصور وقال: الحمد لله على ذلك. وكان كما قال، فإن المنصور مات حاجاً، والمهدي مات بماسبذان، والهادي بعيساباد، والرشيد بطوس، والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي، والمأمون بطرسوس، والمعتصم والواثق والمتوكل والمستنصر بسامرا. ثم انتقل الخلفاء إلى التاج وتعطلت مدينة المنصور من الخلفاء؛ قال عمارة بن عقيل:
أعاينت في طولٍ من الأرض أو عرض ... كبغداد من دارٍ بها مسكن الخفض ؟
صفا العيش في بغداد واخضّر عوده ... وعيش سواها غير خفضٍ ولا غضّ
قضى ربّها أن لا يموت خليفةٌ ... بها، إنّه ما شاء في خلقه يقضي
ذكر أبو بكر الخطيب أن المنصور بنى مدينة بالجانب الغربي، ووضع اللبنة الأولى بيده، وجعل داره وجامعها في وسطها، وبنى فيها قبة فوق ايوان كان علوها ثمانين ذراعاً. والقبة خضراء على رأسها تمثال فارس بيده رمح، فإذا رأوا ذلك التمثال استقبل بعض الجهات ومد رمحه نحوها، فعلموا أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى يأتي الخبر ان خارجياً ظهر من تلك الجهة، وقد سقط رأس هذه القبة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة في يوم مطير ريح، وكانت تلك القبة علم بغداد وتاج البلد، ومأثرة بني العباس.
وكان بجانبها الشرقي محلة تسمى باب الطاق، كان بها سوق الطير فاعتقدوا ان من تعسر عليه شيء من الأمور فاشترى طيراً من باب الطاق وأرسله، سهل عليه ذلك الأمر. وكان عبد الله بن طاهر طال مقامه ببغداد، ولم يحصل له اذن الخليفة، فاجتاز يوماً بباب الطاق فرأى ***ية تنوح، فأمر بشرائها واطلاقها، فامتنع صاحبها أن يبيعها إلا بخمسمائة درهم، فاشتراها وأطلقها وأنشأ يقول:
ناحت مطوّقةٌ بباب الطّاق ... فجرت سوابق دمعي المهراق
كانت تغرّد بالأراك وربّما ... كانت تغرّد في فروع السّاق
فرمى الفراق بها العراق فأصبحت ... بعد الأراك تنوح في الأشواق
فجعت بإفراجٍ فأسبل دمعها ... إنّ الدّموع تبوح بالمشتاق
تعس الفراق وتبّ حبل وتينه ... وسقاه من سمّ الأساود ساقي
ماذا أراد بقصده ***يّةً ... لم تدر ما بغداد في الآفاق
بي مثل ما بك يا حمامة فاسألي ... من فكّ أسرك أن يحلّ وثاقي !